مذكرات طبيب أطفال (1)
مذكرات طبيب أطفال مقيم
![]() |
أكتوبر 2015 |
*
تعود لفظة "مقيم" لكثرة اقامتنا في
المستشفى
ففي العام الماضي أقمت 66 ليلة 24 ساعة متواصلة -مناوبة - في المستشفى وليس كما قالي لي والد أحد المرضى يبدو أن الأخ مقيم من اليمن أليس كذلك؟
قلت له أنا مواطن لست من (اليمن) ولكن عائلتي (السعيد) ،،
ففي العام الماضي أقمت 66 ليلة 24 ساعة متواصلة -مناوبة - في المستشفى وليس كما قالي لي والد أحد المرضى يبدو أن الأخ مقيم من اليمن أليس كذلك؟
قلت له أنا مواطن لست من (اليمن) ولكن عائلتي (السعيد) ،،
هل يكفي أن أقول أن فترة التدريب تشبه تلك المحاولات
العابثة حين كنا صغارا نحاول الصعود على السلم الكهربائي ولكن في الاتجاه المعاكس!
لا نصل
للنهاية إلا إذا أسرعنا في الصعود ولا نكون ثابتين إلا إذا استمرت أقدامنا في
الحركة و إذا توقفنا مضى السلم في نزوله وحينها نبدأ من جديد ، من العبث أن أملا
هذه الذكريات بكلمات الشكوى والإرهاق وقلة النوم في المناوبات و انعدامها في أخرى
والإرهاق الجسدي والنفسي - ليس لأنها ادعاءات بل لأنها حقائق والحقائق ليست بحاجة
إلى أدله -
]الحقيقة التي لا مراء فيها , هي أن من شاهد شقاء الرجل فقط لم يشاهد شيئا و إن من رأى شقاء المرأة لم ير شيئا , وعليه أن يبصر شقاء الطفولة[
فيكتور هوجو – رواية البؤساء
*
الطفل
عبد الله يحظى برعاية خاصة من قسم التمريض فأثناء الليل يكون سريره في الجناح وليس
في الغرفة، الأمر الذي يضيف إلى الزوار والأطباء - وربما القارئ - فضولا في
معرفة السبب، لا ينام مريض في جناح الأطفال إلا بمرافق والأصل أن يكون المرافق
الأم أو من يقوم مقامها ولكن أم عبد الله ترقد في العناية المركزة بعد ولادة طفلها
إثر أزمة قلبية وليس لها قريب يقوم مقامها في الرعاية
عبدالله يصبح الآن المريض رقم واحد في الجناح
الأعين تقبله وتقلبه
ويحرص الممرضون أن يكونوا جزء من ام عبدالله فيشفقون عليه أكثر من غيره..
الأعين تقبله وتقلبه
ويحرص الممرضون أن يكونوا جزء من ام عبدالله فيشفقون عليه أكثر من غيره..
ولكن مهما كان الأم لا يعلو إلى قدرها أحد
لا أنعم من كفيها
لا أحنى من قلبها
آه لو تعلمون كيف تكون الأم حين يمرض طفلها انها تكون (انسان فوق الإنسان)
لا أنعم من كفيها
لا أحنى من قلبها
آه لو تعلمون كيف تكون الأم حين يمرض طفلها انها تكون (انسان فوق الإنسان)
مرت الليالي حتى استطاع والد عبد الله أن يهيئ منزله
لطفله -الوحيد - الذي يصارع الحياة ولزوجه التي تصارع الموت!
هل هناك أقسى من هذا الشعور
حين يتشابك الحزن والفرح في قلب واحد!
حين يتشابك الحزن والفرح في قلب واحد!
كطبيب مناوب اراقب قائمة أسماء مرضى الجناح أستغرب
لماذا يبقى عبد الله في الجناح
وكنت اعرف قبل مدة أن عبد الله سيخرج قريباً!
وحين سألت كان الجواب ان
أم عبد الله ماتت!!
وسيبقى عبد الله في الجناح حتى تصل جدته من خارج المملكة لترعاه
وسيبقى عبد الله في الجناح حتى تصل جدته من خارج المملكة لترعاه
عبد الله كغيره من الرضع يبكي حين يجوع
لكن بكاؤه هذه المرة ليس الجوع فحسب بل على أمه رحمها
الله
القصة لم تنته بعد!
مضت الليال.. تلو
الليال...
مكللا بدموع الفرح والحزن معا يحين يوم خروج عبدالله
إلى الحياة بعد وصول جدته من خارج المملكة
التحدي أن تكون شجاعا بلا سلاح غنيا بلا مال وأقسى التحديات أن تبدأ الحياة بلا أم ..
التحدي أن تكون شجاعا بلا سلاح غنيا بلا مال وأقسى التحديات أن تبدأ الحياة بلا أم ..
خرج عبد الله من الجناح وكلنا امل ان تكون حياته
مليئة بالسعادة والهناء.
وفي ليالي المناوبات اخر الليل
(وكل ليالي المناوبات -اخر
ليل- )
تجمع فريق الإنعاش في الطوارئ لمحاولة انقاذ طفل رضيع
احضره والده وجسمه مزرق -لونه ازرق - بسبب نقص حاد في الأوكسجين .. اخترقت أوردة
الطفل أدوية الانعاش والسوائل مع اجهزة التنفس الصناعي... وبعد 25 دقيقة من
الانعاش قضى الله امره وتم اعلان الوفاة لمريض اسمه عبدالله وبعد التأكد من
ملامح والده تأكد للفريق الطبي ان عبدالله هو ذاك الطفل الذي خرج قبل يومين يصارع
الحياة بلا ام فصرعته الحياة
- بعد قضاء
الله وقدره -
والد عبدالله الان بحاجة الى المواساة بقد تلك المأساة فهو يعيش بقلب مكلوم ماتت زوجته ومات طفله وبقي له بعد الله أمه - جدة عبدالله - فالحمد لله على نعمة الأمهات
والد عبدالله الان بحاجة الى المواساة بقد تلك المأساة فهو يعيش بقلب مكلوم ماتت زوجته ومات طفله وبقي له بعد الله أمه - جدة عبدالله - فالحمد لله على نعمة الأمهات
*
(الدقيقة) التي يتأخر بمقدارها موظف في دائرة
حكومية عن خدمتك لا تؤلمك وحدك أنت فقط بل تؤلم الموظف نفسه!
كطبيب
طوارئ لا يمكنني الالتزام برؤية المرضى بأسبقية الحضور بل بأهمية الحالة ولذلك وضع
في معظم المستشفيات قسم لفرز الحالات التي تزور الطوارئ ولدي هنا فرز آخر لم
يسبقني إليه أحد حتى منظمة الصحة العالمية فات عليها – رغم أنها منظمة – أن تقوم
بهذا الفرز!!
فنوع
من المرضى يعتبر المستشفى معلم من معالم المدينة مثله مثل المكتبة العامة .. متحف
.. حديقة عامة .. فترى بعض التصرفات المذهلة مثلا أن الطوارئ تمتلئ قهوة وشاي
وزوار يحضرون يسلمون على بعض ويرحلون ثم تأتي الى السرير فترى العائلة بفروعها
وأصولها و شبابها وكهولها ولكنك لا ترى المريض ؟؟ فربما كان يلعب مع أطفال آخرون
وربما شفي من المرض فجأة وربما و ربما ..
ونوع
من المرضى يقصدون المشفى لتأديب أبنائهم فتسأل الأب ما المشكلة -فيغمز- من بعيد
قائلا : اللي ما يحل الواجب تعطونه إبره صح؟ اللي ما يسمع كلام أمه تسوون له عملية
صح؟ اللي ما ينام بدري يصاب بمرض صح؟
وأنت
كمستمع للأساليب التربوية الحديثة تنظر في ذهول
هل تعمل كطبيب أم كمرشد طلابي أم مصلح اجتماعي ؟ ونوع آخر من الناس يختمون
الطلعة العائلية بالمرور على الطبيب كي يتأكد أن الجميع صحتهم بخير ولن يصابوا
بمرض في اليوم التالي وقد يكون أحدهم فعلا مريض فيأتي الأب ويحضر العائلة الكريمة
كاملة في عيادة الطوارئ تماما كأنه قسم الجوازات فتصبح العيادة بقدرة قادر مكان اجتماع
العائلة و أُنسها و يصبح الوقت هو وقت المصارحة وحل المشاكل بين الأبناء و يبدأ
التخطيط للسفر والتسوق وأنت كالمسكين تقول للطفل المريض خذ نفس بقوة ..
وصنف
أخير – والأصناف لا تنتهي - الصنف المزاجي فهو يأتي للطوارئ ويطلب منك الدواء
الفلاني قبل أن تستمع الى شكوى طفله بل يفرض عليك خياره وكنت في بداية احد الشفتات
– والأصل أن النفس تكون أحلى ما تكون في أول الدوام (ساعة الصفاء) ثم تبدأ
بالتدريج تتعكر – جاء الأب مع طفلته وقلت له الطفلة تحتاج إلى مغذ بالوريد لمدة لا
تقل عن 4 ساعات فتعكر وجهه وتغير مزاجه وقال لا وقلت بلى .. فتعكرت ساعة الصفاء
وضاقت نفسي واستمر الجدال ساعة بين ( لا ) و (بلى) حتى أنقذ الله حياتي بطبيب آخر
قال للأب المستشفى ليست بقالة تختار حمص أو عدس - وبغض النظر عن هذه مكان البقالة التي
يباع فيها الحمص – كان موقفه مشرفا فقد أعاد إلى نفسي صفاءها بعد أن تعكرت
لكن
ليس الناس كلهم ما ذكرت ففي الناس صنف راق في معاملته وتربيته لأطفاله .. هل
تتخيلون أن أبا يدخل العيادة مع طفلته الجميلة فيقول لها سلمي على عمك فتأتي تسلم
وتقبل يدي .. فأقول له هذا الجمال يستحيل أن يمرض .. البنت ما فيها الا العافية
وآخرون يأتون العيادة ترى في أعينهم الطيبة والبساطة ولا تشك لحظة أنهم يعيشون على
كوكب الطيبين يدعون لك بالنجاح والفلاح وبالمال والزواج والذرية وطول العمر ودخول
الجنة ولو كانت قوانين المستشفى تسمح لأعطيتهم ميعاد مراجعة للعيادة كل يوم.
] انتصبت فوقي الاعمدة اليونانية التي شكلت واجهة مبنى كلية الطب ولم افكر في شيء سوى انني سأصبح طبيبا وسأكون مثل الرجل الذي عالج اختي من مرض الربو .. حقنة واحدة تنهي معاناتها.. سأتعلم الان فعل الشيء نفسه [
مهاتير محمد – طبيب في رئاسة الوزراء
*
هنا
نصائح سريعة لمن عقد النية لزيارة المستشفيات :
اعلم
رحمك الله أن المستشفى دائرة حكومية فلا بد من الدوران فيها لأن العيادات تقع في
غرب المستشفى والصيدلية تقع في شرقها و غرف العمليات في الجنوب و المواقف في
الشمال و الأشعة المغناطسية في القبو و الأشعة المقطعية في الدور الأرضي وأن لابس
المعطف ليس بالضرورة أن يكون طبيبا فإن لم يكن فقد يكون من الصيدلية أو المختبرات
أو التمريض أو العلاج الطبيعي أو التغذية ولكل صنف من هؤلاء عمل وتخصص ودراسة
وكلية ومنهج تختلف عن الاخر فلا تسأل إلا من هو متخصص
وإن
كان لابس المعطف طبيبا فقد يكون طالب طب مجتهد وغالبا – متفوق- وقد يكون طبيب
امتياز وفي الغالب يكون في أبهى منظر لأنه ابتلي بكثرة المال والوقت وقلما تجتمع
لإنسان على وجه الأرض المال والصحة والفراغ وهو إما أن يكون طبيبا مقيما – ولا حول
ولا قوة إلا بالله – فهم فئة من الأطباء العاملين في المستشفى تراه في الصباح
والمساء والصيف والشتاء في العيد والعطل وأيام الدراسة في الجناح والطوارئ وغرف
العمليات في مكتبة المستشفى ومقهاها ومطعمها تراه في يوم مبتسما ضاحكا متهللا
وتراه مرة أخرى عابسا حزينا غاضبا , وفي ليلة المناوبة تراه في أول يومه ووسطه
واخره قبل فطوره ووقت غدائه وبعد عشاءه قبل نومه وبعد نومه وهو نائم حين يصحو لأمر
طارئ , أضحت المستشفى بيته الأول ومنسوبوه يراهم أكثر من أهله وأقاربه .. كأطباء
مؤتمنين على حياة الناس وأرواحهم الثمن ليس رخيصا نحن لا ندفع المال فقط حتى نتعلم
بل ندفع معه الراحة والصحة فالمعرفة شرف ورفعة يرتفع صاحبها بها وترفعك إلى مقامها
بقدر تعبك وجهدك وقبل هذا القصد والنية من المهنة.. ما زلت أعرفكم على سلم الأطباء
ذوو المعاطف بقي صنف الطبيب الأخصائي وهي مرحلة لم أصل إليها بعد ولكني أتوقع أنها
حامليها قد أبلوا بلاء حسنا في حياتهم الماضية ولذلك يخفف عنهم في عدد المناوبات
والعمل ويزاد عليهم في المسئولية ومتابعة من هم دونهم منصبا ويعتد بخبرتهم ولا بأس
بقليل من السعة في العيش والرزق وبعض الأسهم وهذه تهمة لا دليل عليها فأمروها كما
هي والصنف الأخير من الأطباء مرتادي المعاطف هو الاستشاري وهذا لا تراه لأنه نادر
الوجود الا بعضا منهم وهي مرحلة يصل إليها الطبيب بعد أشواط رئيسية وإضافية وبعد
أن تصقله تجارب السنين فيكون علما ومرجعا في تخصصه وربما يكون لابس المعطف لا من
هؤلاء ولا من هؤلاء فلا حرج إن قابلت صاحب معطف أن تسأل عن مهنته حتى لا يفتيك من
لا يعلم فيما لا يعلم ففي الناس صنف يجتهد ويأتي بالعيد فكن على حذر فحياتك أغلى
من أن يعبث بها جاهل
] أحب عالم الأطفال، أحب أن أدخله معهم فهو عالم مليء بالجمال والدهشة والبراءة، عالم يمكن أن يحقق فيه الإنسان إنسانيته و يُحلِّق في سمائه ويسير على أرضه
[
عبدالوهاب المسيري – رحلتي الفكرية
*
ربما
مضت ليلة في المستشفى يمر بها طبيب الأطفال تكون من أعجب الليالي في حياته ولا
ينساها أبدا ففي الصباح يحضر ولادة قيصرية فيرى معجزة الخلق في هذا المولود
الذي عاش في رحم أمه 9 أشهر نفخ فيه الروح وبدأ ينمو وينمو حتى إذا أذن الله
بخروجه إلى الدنيا من (سعة) الرحم إلى (ضيق) الدنيا نستقبله بالضرب حتى يبكي فإذا
بكى المولود – أي مولود – فهي علامة قوة لا خوف ونقلبه يمينا وشمالا ونجس نبضه
ونميز لونه وشكل بكائه وطريقة جلوسه حتى
نشهد له – بالأرقام من 0 الى 10 –بعد قدرة الخالق أنه مستعد لمعركة الحياة
وفي
وسط النهار في عيادة الأطفال يستعد لرؤية هذا
المولود في مختلف مراحل حياته ويراقب نموه الجسدي والعقلي و يتعجب من هذا التدبير
الإلهي كيف لذلك الجسم الصغير أن يكبر ويتشكل في كل ثانية ودقيقة وساعة و ليلة
وأسبوع وشهر وعام حتى يصير (في أحسن تقويم) فــ(تبارك الله أحسن الخالقين)..
وفي
المساء تحديدا آخر الليل معجزة أخرى من معجزات البارئ حين – يقدر الله- أن يحضر
الطبيب حالة وفاة لطفل فيسبق ملك الموت روح الطفل فيقبضها قبل أن تمسكها أجهزة الإنعاش .. المشهد أعظم من أن يوصف
فشهادتك لجسد (يموت) أمامك ليس
كرؤية جسد(مات) ..
في
حالات معينة أجهزة الطبيب تقول أن الطفل مات لكنها لا تقول لماذا مات .. وإذا قالت
لماذا مات فيستحيل أن تقول لماذا مات الآن وليس غدا .. ؟
هذا الإنسان مذهل في خلقه حين يولد وحين يمرض
وحين يموت .. فمن هو خالقه !؟
و
أصعب من شهادة لحظة الموت هي لحظة إعلانها ..
..
فمشاعر الطبيب ليست ملكه فهو يبشر بمقدم المولود
بابتسامة فرح و يطمن على صحة المريض بقلب راض ويواسي أهل الميت بعين تبكي
بلا دموع فهو يخفيها ما استطاع وقد يكون هذا في يوم واحد .. فما أعظم تلك الروح
التي تتحكم في أحاسيسها للآخرين فتعيش معهم في أفراحهم وأتراحهم ..
وهذه هي الإنسانية كما أفهم – حين قالو إن الطب
مهنة إنسانية - ...
تمت
نهاية
الجزء الأول ولا أدري متى تنتهي سلسلة هذه الذكريات ففي كل يوم قصة وعبرة وفي أكتوبر
القادم 2016 يبدأ عام جديد في رحلة التدريب وكأنها البارحة حين كتبت الحروف الأولى
لمذكرات طالب طب سنة أولى في عام 2009 وكما قيل ( نحن حين نتذكر لا نستعيد الحياة
على ما كانت عليه ، بل نحن ننشئ واقعا آخر من خلال هذه الذكريات )
صالح
السعيد @sale7_alsaeed
#مذكرات_طبيب_أطفال
#فضفضة_طبيب
السبت
1 أكتوبر 2016 الساعة 00:00
التسميات: مذكرات طبيب أطفال
5 تعليقات:
ما شاء الله .. لا اقرأ أي مقال .. لكن من أجمل ما قرأت
واصل وشاركنا ابداعك .. أخوك صاحب الكيكة :)
:) :)
جميل يبو رشيد .. مذكرات معبّره من مبدع
أعجبتني.. (سعة) الرحم إلى (ضيق) الدنيا
أزال المؤلف هذا التعليق.
رائع يا دكتورنا والله
https://www.supernono.net/
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية