الأربعاء، 6 سبتمبر 2017

مذكرات طبيب أطفال (2)

 مذكرات طبيب أطفال مقيم 
 الجزء الثاني
2016-2017

تزداد وسامة الأيام كلما مضت
عبدالرحمن حمد

إهداء
إلى أمي التي ترى سعادتها في سعادتي وأبي الذي ضمني بحرارة حين أخبرته بنجاحي
إلى زوجتي الغالية.. التي سألتني ذات مساء
كيف المناوبة معاك؟ وهل أنت بخير؟ ولماذا تأخرت؟ ومتى ستعود؟

تــُجيبكم هذه الذكريات



في قلبي .. في قلبي
ينتصف الصباح و ينتصف معه كل شيء ..
اليوم هو منتصف الأسبوع نصف الساعة العاشرة منتصف الدوام والمريض في منتصف الجناح ..
وربما كنت أقف في منتصف الفريق الطبي الذي يمر على المرضى في جناح الأطفال
حيث يتدفق الحب كالنبع الصافي والنهر الجاري فترى أجمل ما يمكن أن يكون بين مخلوقين على وجه الأرض من روابط الصداقة العميقة رغم فارق العمر واختلاف اللسان يتساوى بينهم وبينهم فقط رابطة الأمومة
الأم مع طفلها.. قصص لا تنتهي من الجمال والعطف والحنان ..
يقترب الاستشاري لفحص الطفل ذو الــ 3 أعوام ليطمئن على صدرهلكن الطفل يرى الشفاء في جملة واحدة فقط :
 (ماما في قلبي في قلبي) و هي في قاموس الطفولة تعني : أمي احمليني وضميني إلى قلبك .. حتى اذا تلاقى قلبينا أصبح قلبا واحدا ، ولذلك عبر الطفل بكلمة ((في قلبي في قلبي)) فما كان من الأم الرحيمة إلا أن أخذته على صدرها وهي تبكي وتردد ( في قلبي في قلبي) فما رأت عيني ولا سمعت أذني ولا خفق قلبي لمثل هذا المنظر البهيج شفاه ربي وعافاه




الشريعة تنظّم حياة الإنسان من أحكام الجنين إلى أحكام الدفن ( الشيخ محمد المنجد)


عقوق

أقف ضائعا بين أجنحة المستشفى المترامي الأطراف فهناك ثلاث مباني متصلة ببعضها البعض ولكل مبنى تعريف خاص بأرقام الطوابق وعلامات الغرف وبين أحد تلك المباني والآخر جسر طويل لا يستفيد منه العابر سوى حرق بعض السعرات الحرارية ( التي يستعيدها في فترة الغداء) وعلى جانبي الجسر باب آلي لا يستجيب للمرور العابر إلا بضغطة زر تقع على بعد متر من الباب  وحين يُـفتح الباب وهو يفتح ببطء شديد ثم يبقى فاغرا فاه لعشر ثواني ثم يغلق في طرفة عين وربما مررتُ في الثانية التاسعة فأُغلقَ بعد الثانية العاشرة بقوة فسبب كسورا في عظمة الكتف و نزيفا في أوردة الذراع ولكن هذه الجروح تهون أمام جرح واحد وهو جرح المشاعر
بالإضافة إلى مشهد الضياع في الجسر كنت (مناوبا) في يوم (سبت) من الصباح الباكر جيئة وذهابا على المرضى شفاهم الله حتى وضعت رحالي قبيل (الظهيرة) فيأتيني اتصال من قسم آخر يطلب استشارة طبية حول مريضة في جناح آخر عمرها 8 سنوات تشتكي من ضعف في حركة رجليها فذهبت أنا و أمعائي (الخاوية) من الطعام و معي طبيب امتياز يؤنسني الوحشة ويشاركني الجوع والألم ( ولابُدَّ من شَكْوَى إِلى ذي مُروءَة … يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّع ) فدخلنا على المريضة وهي في أتم صحة وعافية وسألناها ارفعي رجلك انزليها ارفعي انزلي وأخرجنا مطرقة الطبيب التي يظن الناس أن بها سحر وأننا نضرب المريض انتقاما وكرها وأننا من قمة استمتاعنا بتعذيب المريض نعيدها تكرارا و مرار ونبتسم ابتسامة رضا وسعادة في الطرقة الأخيرة حين تتحرك الرجل من تلقاءها و والله لو علم الناس أن القدم إذا بقيت ساكنة أو ارتفعت بقوة مفرطة فهي تدل على مرض في غالب الأحيان وحينها لابد للطبيب أن يبحث عن مصدر العلة لأشفقوا علينا ، نعود للمريضة و لنطلق عليها أسم ( ظريفة ) ..
قررت ظريفة أن تتوقف عن التعاون معنا في الفحص وإجابة الأسئلة.. وبدأ الدلع وكطبيب أطفال يتقبل دلعهم وصراخهم ولكن ليس في هذه الظروف يا ظريفة وأعني بالظروف كل ما كتب بين قوسين أعلاه.. فظللت أتودد إليها برهة من الزمن حتى طفح الكيل وجف الريق و بدل أن أعالج (ضعف) أرجل ظريفة أصابني (ضعف) في رجلي من طول الوقوف فانتقلت العدوى إلي ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وبعد ساعتين من النقاش الضائع الذي يضر ولا ينفع اتصل علي الأخصائي يسأل ما الخبر؟ فتلوت المشهد التراجيدي السابق وفي الأخير أتى الأخصائي تعلو على وجهه الأنيق أمارات الثقة بالنفس و مطرقته تجول بين يمناه و يسراه حتى وصلنا إلى ظريفة فافتتح الأخصائي النقاش ببعض عبارات المحبة والإخاء المفرطة تلتها ابتسامة نصف صادقة ثم تلاها عبوس في الوجه ثم تلاه غلظة في الكلام وبين  كل تلك التوالي استرق النظر إلى طبيب الإمتياز وابتسم فحمدت ربي أن المشكلة في ظريفة وليست فيني ، و القصة لم تنته بعد كانت الساعة الواحدة ظهرا حين بدأت نقاشي مع ظريفة وجاء الأخصائي في حدود الثالثة عصر و بعده بساعتين جاء الاستشاري ، فكانت المقابلة الثالثة مع ظريفة أشد وأعمق لم أبتسم فقط بلى انهالت علي الضحكات مع طبيب الامتياز ، جاء الاستشاري في كامل قواه العقلية والجسمية ومعه عصا يتيمة واستنكر علينا وقوفنا مع ظريفة طيلة الساعات الخمس بلا نتيجة – وكان الاستشاري من باكستان لا يتقن العربية –و حينها تحول عملي من طبيب إلى مترجم ولكن كيف أقول للاستشاري أن ظريفة تقولك – انقلع برا ما أبيك .. أنا ما أحب الأمريكان -!
كان الاستشاري مبتسما ومع كل دقيقة تمر كانت الابتسامة تصغر وتصغر حتى اضمحلت وعلى العكس كنت ابتسامتي تكبر وتكبر وتكبر حتى إذا اقتربت من الضحك غطيت وجهي بستارة المريض كأني انظر لخارج الجناح فأضحك ما شاء الله لي أن أضحك ثم أعود أكمل الترجمة ودموعي تسيل على خدي وربما ظنها الجميع من تأثري على ظريفة ولا يدرون أنها دموع الضحك على هذا المشهد البهيج حيث تلقى الجميع نفس الصفعات من ظريفة التي اكتشفنا مع الأيام أنها بخير وأن ضعفها غالبا ليس صحيحا شفاها ربي وعافاها

إن أقسى ما في الحياة ليس أن تسأم ، بل أن تكون مُكرهاً على أن تبدو مسروراً (دانينوس)



آسف

لوالد الطفل المريض الذي أتى العيادة من أقصى الأرض يتابع تحليل ولده ولكنه أيضا يشتكي أن منزله المتهالك هدم رغما عنه في مشروع إصلاح حكومي فأجبته ببرود: خلاص يا عم موعدكم بعد شهرين ولم يسمع مني كلمة واحدة تواسي قلبه المكلوم أنا آسف ...
إلى الأم التي جاءتني في الطوارئ تطلب تحاليل لأولادها الأصحاء فرفضت رفضا تاما وأمرتها بمراجعة المركز الصحي حتى حين أخبرتني أنها مطلقة من والدهم الذي لا يهتم بصحتهم وأنهم يتوجعون لها فرفعت صوتي رافضا كل التوسلات أنا آسف..
إلى والدة الطفل الخديج الذي تلقفته أجهزة العناية المركزة فور ولادته وجئت أسألها عن تاريخ الحمل قبيل الفجر وأنا منهك القوى وتسألني عن صحة طفلها الذي كتبت له الحياة بعد أن مات عليها طفلين هل هو بخير أم لا فأجيب بلا مبالاة: بكرا بكرا يكلمونك القسم خلينا نخلص الآن ... أنا جدا آسف
إلى والد المريض الذي أُدخل العناية إثر حادث غرق وهو يسأل : هل بيعيش بيصحى طيب إذا قام شلون وأحين أيش أسوي و شرايك يا دكتور؟ فتجاهلت الأسئلة بقسمات وجهي نصفها أمل ونصفها يأس.. كلمة آسف لا تكفيك يا عم
إلى الجد الذي شُخصت حفيدته بمرض سكري الأطفال فأخبرته بإجراءات التنويم بكل أدب ووضوح ولكنه مع كبر سنه قلّ أدبه وتجاوز في الكلام فآثرت الصمت وأكملت عملي ثم جاءني وكله خجل وحياء وقال لي دكتور: أنا آسف ... 
أقول له : شكرا لك

أوّلُ العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل، والخامس نشره. - الأصمعي


كشري القاهرة

في أول سنة لي في كلية الطب و تحديدا محاضرة الأحياء تحدث أستاذ المادة عن أهمية الغذاء للمخلوقات الحية وجعل (مجرد الغذاء) غاية يعيش لأجلها كل إنسان حي فأنت تعمل وتكسب المال لتأكل كي لا تموت .. لكنني كرهت فيه هذا التقديس للأكل لمدة 8 سنوات في مسيرة دراسة الطب حتى جاءت ليلة ليلاء من ليالي المناوبات القاتلة ماذقت فيها النوم فضلا عن الطعام .. وأنهكت في السعي بين الطوارئ والأشعة والجناح والعناية فما من عضلة في الجسم إلا وهي تستجدي ولا من خلية إلا وهي تأن جوعا ولو جاء في حسابي مئة ألف لصرفتها على كشري القاهرة وهو يبعد عن المستشفى 7 أضعاف المشوار بين طوارئ الأطفال و جناح العناية المركزة .. يا الله أجمل الذكريات وأحلى الضحكات و أسعد المناوبات هي ما كان تبعثه رائحة الكشري تك تك تك لا حول ولاقوة الا بالله كانت النية في هذا الجزء من الذكريات أن أتحدث عن ذكرياتي مع زملاء القسم ولكن الكشري أثبت وجوده وكأنه أحد زملاء القسم 
 أعزّ مكان في الدنا (القاهرة) وخير جليس في الزمان ( كُشريّها) ..
فكرة الغذاء في المناوبات تستحق التأمل .. فهي رزق من الأرزاق المكتوبة فمثلا في أوقات الزيارة يتحول المستشفى إلى مجالس عربية رائحة القهوة والبخور والعطور تعم المكان ولا أنسى والد مريضة في الجناح حلف بالأيمان المغلظة ألا أخطو خطوة واحدة حتى أذوق من القهوة والحلى و يا الله كم من النعيم المعجل للمسلم في هذه الحياة الدنيا قهوة في المناوبة تُسعد مزاجك لمدة .. ولكن الشجى يبعث الشجى فكم من المناوبات التي تأخر إفطاراها وبرد غداؤها وعشاؤها و انعدمت قهوتها وشح ماؤها وكم من سحور في رمضان أُفطر عليه في مغرب اليوم التالي و إن أنسى فلن أنسى تلك العائلة الخبيثة قبيل إفطار رمضان حيث جلس أمامي الأب وابنته وبقي على أذان المغرب دقيقتان فسألت الأب ما المشكلة قال لي لحظة لحظة خلني أتصل على أمها أشوف شالسالفة و البنت أمامي كالفراشة لا يضرها شيء والأب ممسك بهاتفه ويسأل الأم
: إلا وشفيها البنت: أها ألم بطن
أنا : من متى
 : ألو يقول من متى؟  من أمس..
: معها ترجيع أو إسهال..
 .. (الله أكبر آذان المغرب)..
: يقول الدكتور معها ترجيع أو إسهال؟
فتجيب الأم بس ترجيع فيقول الأب إلا كان فيه اسهال بعد ...
طب يا عيال اللذين ءامنوا: ذاكروا قبل لا تجون الطوارئ
وأحمد الله تعالى أن البنت تبرعت لي بقارورة ماء جديدة من قوارير إفطار صائم حتى يبل ريقي وتهدأ نفسي وبذلك حمت والدها ونفسها من أي شكوى قد ترفع ضدّ والدها وأمها لأنها صورة من صور الاعتداء وكما نعلم جميعا  #الاعتداء_على_الممارس_الصحي_جريمة

قلت لأحلامي تعالي .. فتعَالتْ ( جبران)

راحلون

أن تغرق خير من أن تنتظر الغرق .. أن تموت خير من أن تنتظر الموت !
الموت مرحلة من مراحل العمر، يرحل إليها الموتى إلى عالم نؤمن به ولا نعرفه نخاف منه ونحن سائرون إليه .. فكم من لحظة من لحظات الوفاة كان الطبيب شاهدا على رحلتها إما لشح العلاج أو لطبيعة المرض أو لـتدهور الحالة الصحية ...
محمد في عمر السنتين من عمره يصاب بمرض في الأمعاء علاجه الوحيد استئصالها وزرع أمعاء جديدة.. محمد لا يعي بمن حوله لا يتكلم أو يبكي أو يضحك محمد يأنّ فقط ليلا ونهارا.. مضى عليه سنة ونصف تعاقب عليه معظم متدربي القسم وفي كل مرور صباحي :  يا أم محمد كيف حالك؟ كيف محمد بخير كويس ؟ ومع مرور الأيام ننسى محمد فإذا مررنا على الغرفة نسأل الأم كيف حالك كيف صحتك ؟  مرت الأيام والليالي
وذات مساء نصعد مسرعين إلى الجناح بعد أن بلغتنا الممرضة أن محمد تعبان جدا وأن النبضات خفتت و التنفس هدأ.. في جملة واحدة ( مات محمد) و أقسى من وفاة محمد هو إخبار أمه التي تناوبت مع أختها في آخر أيامه فلم تكن عنده ليلة الوفاة بل جاءت متأخرة وحين دخلت الجناح مسرعة هرعت أمهات الأطفال الآخرين وأمسكوا بها وهي تقول : محمد محمد ايش فيه جلسنا تحدثنا معها وصبرناها كنا نتكلم بألسنتنا وكانت تجيب بدموعها فقط .. يا الله لغة الدموع صادقة..
 المرض هو الجسر الذي تتحول عند عتبته مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشيخوخة
مهند كما كان يرسم الفرحة في حياة الآخرين كان مرضه يرسم الحزن في حياته كانت أيامه كواحة الزهور العطرة تذوب يوما بعد يوم فلا شمس تضيئها ولا ماء يرويها وكنا نسقيها بكلامنا وجلوسنا و حديثنا و لعبنا معه ولكن في الحقيقة كنا نعزيه و نعزي أمه يوما بعد يوم لمدة عام كامل حتى أتى اليوم الذي مات فيه مهند وأفِلت شمسه رحمه الله رحمة واسعة
علاج مهند متوفر لكن – بعد قضاء الله- ظروف أهله نأت عن ذلك كله ولا أصدق من حالته وحالتنا إلا كما قال المتنبي:
إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا .. أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ
نعم نحن الراحلون ولست أنت يا مهند ..

وما آلام الدنيا كلها إلّا لون من  ألوان الفراق: فالموت فراق الحياة، والثّكل فراق الولد، والغربة فراق الوطن، والفقر فراق المال، والمرض فراق الصحة ( علي الطنطاوي رحمه الله)

غمزة عين
في غمرة مراجعي الطوارئ يدخل مريضا تلو الآخر وبالكاد يتلقط الطبيب أنفاسه حتى يلفت نظره نوع من الناس..والناس أنواع وأجناس
منهم يتخذ الطبيب وسيلة ضغط على أفراد أسرته فيطلب منك أن تأمر ابنه أو ابنته بأمر ما أو تنهاهم عنه تظهر لهم نصف الحقيقة وتخفي بقيتها لابد أن تُطيع فلا تعصي الأوامر ولا ترد الاقتراحات وكأنك موظف في خدمة العملاء ..   أقول لأحدهم البنت لازم نسوي لها أشعة للبطن فيأمر الأب أن تذهب العائلة الكريمة كلها إلى قسم الأشعة – وما أكثر هذه الزيارات العائلية التي تفسد ولا تصلح -  ويبقى هو لوحده معي في غرفة الطوارئ فأسر إلي قائلا تكفى إذا جاو أبيك تقول للبنت لا تأكلين أندومي خلاص اتفقنا وبنصف ابتسامة وافقت وبعد ساعة من الزمن عادت العائلة الكريمة معهم والدهم فطمأنتهم على نتيجة الأشعة مع كم حبة دواء ومع السلامة تعودونها السنة وكل سنة .. ونسيت الأندومي ! لكن الأب لا ينسى قال لي أممممم أكيد دكتور ما في علاج ثاني؟ أكيد يعني نروح خلاص؟ أكيد الأمور طيبة؟ أكيد بنتي ما فيها شيء ؟ وبين كل توكيدة وأخرى يغمز الأب لي و لم أفهم ما يريد إلا عند الغمزة  رقم  7834841897 فغمزت وابتسمت وكدت أضحك فقلت والأب يسارقني النظر أووه صح صح في شي مهم لازم الواحد ما يشرب ببسي ولا ياكل بطاطس ولا يكثر ككاو – الأب هنا ضاعف الغمزات لأني ما وصلت للأندومي – جاز لي الوضع .. حتى وصلت للأندومي وقلت وبعد أخطرهم الأندومي  وما أتممت حرف الياء حتى سلم الأب علي بحرارة وقال مع السلامة مع السلامة
ومرة حضرت العيادة بعد مناوبة ليلية مؤلمة ماذقت فيها النوم ولا كشري القاهرة وقبل دخول الأب مع ابنه قرأت الملف ومكتوب فيه (هذا الطفل ستجرى له عملية بعد شهرين في المثانة وكرما أكدوا لنا أنه لا يعاني من ربو لأنه سيعيق اجراء العملية إذا لم يتم التحكم فيه ) دخل الأب و قبل السلام عيناه تغمزان وتجولان في العيادة بشكل متكرر حتى أوشكت أن اتصل على إدارة مكافحة المخدرات – وبالمناسبة رقم التبليغ 995 ولو كان في هاتفي مجال رقمين لوضعت رقم المكافحة وكشري القاهرة لما لهما من أهمية بالغة – احترت في حال هذا الأب هل أقوم أسلم عليه ؟ هل أقول له ألو ؟  ففتح الله عليه وجلس وقال دكتور دكتور ولدي ما فيه شيء صح أكيد إلا إلا ولم يعطني الأب أي فرصة للكلام أبدا حتى رفعت صوتي وقاطعته:  كيف ما في شي إلا عمليته بعد شهرين – وما ان نطقت كلمة (عملية) حتى أزبد وأرعد وأطال صوته : لا لا ما في شيء ما في شيء صح ولا لا، أنا : كيف ما في شيء مكتوب قدامي عملية عقب شهرين بعدين إذا ما في شيء ليه جاي العيادة ؟ فعاد المشهد بالبطيء فاختصرت الموضوع وناديت الطفل وسمعت صدره وكان سليما وقلت للأب : ولدك صدره كويس بس لا تنس الله يرضى عليك العملية بعد شهرين .. فأسرّ طبيب الامتياز الذي في العيادة : يا دكتور الولد ترى ما يدري بالموضوع ...
أنا : أهااا إي إي صح ولدك كويس مرة ما فيه شيء أبد ولدك أحسن واحد ، خرج الأب مع طفله وبعد 10 ثواني دخل الأب لوحده وقال لي الله يهديك يا دكتور فضحتنا قدام الولد ! فاللهم سامحني واغفر لي بعدد دقات قلب الطفل المسكين الذي جحظت عيناه حين علم بالعملية واشفه وجميع مرضى المسلمين

"In residency, there’s a saying: The days are long, but the years are short."

جناح الأمل


تنام في الجناح (وردة) ذابلة أحرقها سرطان الدم وأحالتها أدوية العلاج الكيماوي إلى رماد فتراها كأنك ترى بقايا إنسان .. اتفق الأطباء على توقيع ورقة : عدم الإنعاش في حال توقف القلب والنفس ويكتفى بالأوكسجين فقط ، زرتهم قبل توقيع الورقة وبعد توقيعها مرت أمامي امرأة تبكي ولم أعرفها وحين وصلت الغرفة عرفت أنها أم تلك الـ ( وردة) بعد أن وقعت تلك الورقة طلبت الخروج من المستشفى على مسؤوليتها حتى تنام الوردة نومتها الأخيرة في حقل بيتهم البعيد ..هذا الجناح جناح الأمل كل العاملين يدركون أن الأمل جزء من علاج مرضاهم فيتفانون في رعايتهم حتى يكتب الله أمره فيشفى أناس و يفنى آخرون وكل من عليها فان .. يقابل جناح الأمل للأطفال جناح الأمل للكبار حيث فاضت روح طاهرة ونفس نقية زكية مليئة بالصبر والإيمان روح الأخ العزيز عمر الريس رحمه الله وكنت وقتها في عيادة الأعصاب في الطابق الأرضي وجاءتني رسالة الوفاة فذهلت وخرجت مع الاستشاري يحادثني فأسمع منه وكأني لا أسمع شيئا وصعدت للطابق الأخير فإذا بي أرى أخوه عبدالرحمن فأسأل عن مكان عمر وحين ذهبت لطاقم التمريض أسألهم فلم يجبني أحد وجاء طبيب فسلم علي ودعا لعمر وقال لي ما شاء الله كل أهله راضون محتسبون  الله يغفر له ويرحمه ويدخله الفردوس الأعلى من الجنة .. ضاق بي بهو ذلك المستشفى الرحب وبقيت أسبوعا مكتئبا ففي يوم واحد خرجت (وردة) ليتوفاها الله متى شاء وبعدها بساعة يتوفى الله صديقنا عمر ..
الأمل أنه ترك بعده أثرا لا يمحى وهكذا هي الحياة حسن الذكر ثمرة العمر
.
حين كبّر جدي مصلياً على أبي رحمهما الله؛ كان يبكي على التاريخ، وكنت أبكي على المستقبل!
 (عبدالله الوشمي‏ )


هل انتهت الذكريات؟!




يقول غازي القصيبي – رحمه الله- ليست المشكلة في النسيان بل في كثرة الذكريات ، وكل هذه المشاعر والآراء والحروف هي حبيسة اللحظات الحاضرة ، ولكنني لا أدري هل ستكون هناك ذكريات أجمل مما كتبت وعشت ؟ بإذن الله نعم كما يقول ناظم حكمت: أجمل الأيام هي تلكَ التي في انتظارنا أجمل البحار التي لم نذهب إليها بعد أجمل الأطفال هم الذين لم يكبروا بعد ...

 وكتبه
صالح بن رشيد السعيد
في ليلة مقمرة من ليالي عيد الأضحى المبارك 
كل عام وأنتم بخير
سبتمبر 2017
#فضفضة_طبيب
@Sale7_alsaeed

* * *
مذكرات طبيب أطفال مقيم الجزء الأول
https://saleh-alsaeed.blogspot.com/2016/09/1.html?view=magazine

التسميات:

الجمعة، 30 سبتمبر 2016

مذكرات طبيب أطفال (1)

مذكرات طبيب أطفال مقيم
 
أكتوبر 2015
 
 
*
تعود لفظة "مقيم" لكثرة اقامتنا في المستشفى
ففي العام الماضي أقمت 66 ليلة 24 ساعة متواصلة -مناوبة -  في المستشفى وليس كما قالي لي والد أحد المرضى يبدو أن الأخ مقيم من اليمن أليس كذلك؟
قلت له أنا مواطن لست من (اليمن) ولكن عائلتي (السعيد) ،،
هل يكفي أن أقول أن فترة التدريب تشبه تلك المحاولات العابثة حين كنا صغارا نحاول الصعود على السلم الكهربائي ولكن في الاتجاه المعاكس!
 لا نصل للنهاية إلا إذا أسرعنا في الصعود ولا نكون ثابتين إلا إذا استمرت أقدامنا في الحركة و إذا توقفنا مضى السلم في نزوله وحينها نبدأ من جديد ، من العبث أن أملا هذه الذكريات بكلمات الشكوى والإرهاق وقلة النوم في المناوبات و انعدامها في أخرى والإرهاق الجسدي والنفسي - ليس لأنها ادعاءات بل لأنها حقائق والحقائق ليست بحاجة إلى أدله -
 
 ]الحقيقة التي لا مراء فيها , هي أن من شاهد شقاء الرجل فقط لم يشاهد شيئا و إن من رأى شقاء المرأة لم ير شيئا , وعليه أن يبصر شقاء الطفولة[
 فيكتور هوجورواية البؤساء
*
الطفل عبد الله يحظى برعاية خاصة من قسم التمريض فأثناء الليل يكون سريره في الجناح وليس في الغرفة، الأمر الذي يضيف إلى الزوار والأطباء - وربما القارئ -  فضولا في معرفة السبب، لا ينام مريض في جناح الأطفال إلا بمرافق والأصل أن يكون المرافق الأم أو من يقوم مقامها ولكن أم عبد الله ترقد في العناية المركزة بعد ولادة طفلها إثر أزمة قلبية وليس لها قريب يقوم مقامها في الرعاية
عبدالله يصبح الآن المريض رقم واحد في الجناح
الأعين تقبله وتقلبه
ويحرص الممرضون أن يكونوا جزء من ام عبدالله فيشفقون عليه أكثر من غيره..
ولكن مهما كان الأم لا يعلو إلى قدرها أحد
لا أنعم من كفيها
لا أحنى من قلبها
آه لو تعلمون كيف تكون الأم حين يمرض طفلها انها تكون (انسان فوق الإنسان)
مرت الليالي حتى استطاع والد عبد الله أن يهيئ منزله لطفله -الوحيد - الذي يصارع الحياة ولزوجه التي تصارع الموت!
هل هناك أقسى من هذا الشعور
حين يتشابك الحزن والفرح في قلب واحد!
كطبيب مناوب اراقب قائمة أسماء مرضى الجناح أستغرب لماذا يبقى عبد الله في الجناح
وكنت اعرف قبل مدة أن عبد الله سيخرج قريباً!
وحين سألت كان الجواب ان
أم عبد الله ماتت!!
وسيبقى عبد الله في الجناح حتى تصل جدته من خارج المملكة لترعاه
عبد الله كغيره من الرضع يبكي حين يجوع
لكن بكاؤه هذه المرة ليس الجوع فحسب بل على أمه رحمها الله
القصة لم تنته بعد!
مضت الليال.. تلو الليال...
مكللا بدموع الفرح والحزن معا يحين يوم خروج عبدالله إلى الحياة بعد وصول جدته من خارج المملكة

التحدي أن تكون شجاعا بلا سلاح غنيا بلا مال وأقسى التحديات أن تبدأ الحياة بلا أم ..
خرج عبد الله من الجناح وكلنا امل ان تكون حياته مليئة بالسعادة والهناء.
وفي ليالي المناوبات اخر الليل
 (وكل ليالي المناوبات -اخر ليل- )
تجمع فريق الإنعاش في الطوارئ لمحاولة انقاذ طفل رضيع احضره والده وجسمه مزرق -لونه ازرق - بسبب نقص حاد في الأوكسجين .. اخترقت أوردة الطفل أدوية الانعاش والسوائل مع اجهزة التنفس الصناعي...  وبعد 25 دقيقة من الانعاش قضى الله امره وتم اعلان الوفاة لمريض اسمه عبدالله وبعد التأكد من ملامح والده تأكد للفريق الطبي ان عبدالله هو ذاك الطفل الذي خرج قبل يومين يصارع الحياة بلا ام فصرعته الحياة
 - بعد قضاء الله وقدره -
والد عبدالله الان بحاجة الى المواساة بقد تلك المأساة فهو يعيش بقلب مكلوم ماتت زوجته ومات طفله وبقي له بعد الله أمه - جدة عبدالله - فالحمد لله على نعمة الأمهات
 
 

 
*
 (الدقيقة) التي يتأخر بمقدارها موظف في دائرة حكومية عن خدمتك لا تؤلمك وحدك أنت فقط بل تؤلم الموظف نفسه!
كطبيب طوارئ لا يمكنني الالتزام برؤية المرضى بأسبقية الحضور بل بأهمية الحالة ولذلك وضع في معظم المستشفيات قسم لفرز الحالات التي تزور الطوارئ ولدي هنا فرز آخر لم يسبقني إليه أحد حتى منظمة الصحة العالمية فات عليها – رغم أنها منظمة – أن تقوم بهذا الفرز!!
فنوع من المرضى يعتبر المستشفى معلم من معالم المدينة مثله مثل المكتبة العامة .. متحف .. حديقة عامة .. فترى بعض التصرفات المذهلة مثلا أن الطوارئ تمتلئ قهوة وشاي وزوار يحضرون يسلمون على بعض ويرحلون ثم تأتي الى السرير فترى العائلة بفروعها وأصولها و شبابها وكهولها ولكنك لا ترى المريض ؟؟ فربما كان يلعب مع أطفال آخرون وربما شفي من المرض فجأة وربما و ربما ..
 
ونوع من المرضى يقصدون المشفى لتأديب أبنائهم فتسأل الأب ما المشكلة -فيغمز- من بعيد قائلا : اللي ما يحل الواجب تعطونه إبره صح؟ اللي ما يسمع كلام أمه تسوون له عملية صح؟ اللي ما ينام بدري يصاب بمرض صح؟
وأنت كمستمع للأساليب التربوية الحديثة تنظر في ذهول  هل تعمل كطبيب أم كمرشد طلابي أم مصلح اجتماعي ؟ ونوع آخر من الناس يختمون الطلعة العائلية بالمرور على الطبيب كي يتأكد أن الجميع صحتهم بخير ولن يصابوا بمرض في اليوم التالي وقد يكون أحدهم فعلا مريض فيأتي الأب ويحضر العائلة الكريمة كاملة في عيادة الطوارئ تماما كأنه قسم الجوازات فتصبح العيادة بقدرة قادر مكان اجتماع العائلة و أُنسها و يصبح الوقت هو وقت المصارحة وحل المشاكل بين الأبناء و يبدأ التخطيط للسفر والتسوق وأنت كالمسكين تقول للطفل المريض خذ نفس بقوة ..
وصنف أخير – والأصناف لا تنتهي - الصنف المزاجي فهو يأتي للطوارئ ويطلب منك الدواء الفلاني قبل أن تستمع الى شكوى طفله بل يفرض عليك خياره وكنت في بداية احد الشفتات – والأصل أن النفس تكون أحلى ما تكون في أول الدوام (ساعة الصفاء) ثم تبدأ بالتدريج تتعكر – جاء الأب مع طفلته وقلت له الطفلة تحتاج إلى مغذ بالوريد لمدة لا تقل عن 4 ساعات فتعكر وجهه وتغير مزاجه وقال لا وقلت بلى .. فتعكرت ساعة الصفاء وضاقت نفسي واستمر الجدال ساعة بين ( لا ) و (بلى) حتى أنقذ الله حياتي بطبيب آخر قال للأب المستشفى ليست بقالة تختار حمص أو عدس - وبغض النظر عن هذه مكان البقالة التي يباع فيها الحمص – كان موقفه مشرفا فقد أعاد إلى نفسي صفاءها بعد أن تعكرت
 
لكن ليس الناس كلهم ما ذكرت ففي الناس صنف راق في معاملته وتربيته لأطفاله .. هل تتخيلون أن أبا يدخل العيادة مع طفلته الجميلة فيقول لها سلمي على عمك فتأتي تسلم وتقبل يدي .. فأقول له هذا الجمال يستحيل أن يمرض .. البنت ما فيها الا العافية وآخرون يأتون العيادة ترى في أعينهم الطيبة والبساطة ولا تشك لحظة أنهم يعيشون على كوكب الطيبين يدعون لك بالنجاح والفلاح وبالمال والزواج والذرية وطول العمر ودخول الجنة ولو كانت قوانين المستشفى تسمح لأعطيتهم ميعاد مراجعة للعيادة كل يوم.
 
 ] انتصبت فوقي الاعمدة اليونانية التي شكلت واجهة مبنى كلية الطب ولم افكر في شيء سوى انني سأصبح طبيبا وسأكون مثل الرجل الذي عالج اختي من مرض الربو .. حقنة واحدة تنهي معاناتها.. سأتعلم الان فعل الشيء نفسه [
مهاتير محمدطبيب في رئاسة الوزراء
*
هنا نصائح سريعة لمن عقد النية لزيارة المستشفيات :
اعلم رحمك الله أن المستشفى دائرة حكومية فلا بد من الدوران فيها لأن العيادات تقع في غرب المستشفى والصيدلية تقع في شرقها و غرف العمليات في الجنوب و المواقف في الشمال و الأشعة المغناطسية في القبو و الأشعة المقطعية في الدور الأرضي وأن لابس المعطف ليس بالضرورة أن يكون طبيبا فإن لم يكن فقد يكون من الصيدلية أو المختبرات أو التمريض أو العلاج الطبيعي أو التغذية ولكل صنف من هؤلاء عمل وتخصص ودراسة وكلية ومنهج تختلف عن الاخر فلا تسأل إلا من هو متخصص
وإن كان لابس المعطف طبيبا فقد يكون طالب طب مجتهد وغالبا – متفوق- وقد يكون طبيب امتياز وفي الغالب يكون في أبهى منظر لأنه ابتلي بكثرة المال والوقت وقلما تجتمع لإنسان على وجه الأرض المال والصحة والفراغ وهو إما أن يكون طبيبا مقيما – ولا حول ولا قوة إلا بالله – فهم فئة من الأطباء العاملين في المستشفى تراه في الصباح والمساء والصيف والشتاء في العيد والعطل وأيام الدراسة في الجناح والطوارئ وغرف العمليات في مكتبة المستشفى ومقهاها ومطعمها تراه في يوم مبتسما ضاحكا متهللا وتراه مرة أخرى عابسا حزينا غاضبا , وفي ليلة المناوبة تراه في أول يومه ووسطه واخره قبل فطوره ووقت غدائه وبعد عشاءه قبل نومه وبعد نومه وهو نائم حين يصحو لأمر طارئ , أضحت المستشفى بيته الأول ومنسوبوه يراهم أكثر من أهله وأقاربه .. كأطباء مؤتمنين على حياة الناس وأرواحهم الثمن ليس رخيصا نحن لا ندفع المال فقط حتى نتعلم بل ندفع معه الراحة والصحة فالمعرفة شرف ورفعة يرتفع صاحبها بها وترفعك إلى مقامها بقدر تعبك وجهدك وقبل هذا القصد والنية من المهنة.. ما زلت أعرفكم على سلم الأطباء ذوو المعاطف بقي صنف الطبيب الأخصائي وهي مرحلة لم أصل إليها بعد ولكني أتوقع أنها حامليها قد أبلوا بلاء حسنا في حياتهم الماضية ولذلك يخفف عنهم في عدد المناوبات والعمل ويزاد عليهم في المسئولية ومتابعة من هم دونهم منصبا ويعتد بخبرتهم ولا بأس بقليل من السعة في العيش والرزق وبعض الأسهم وهذه تهمة لا دليل عليها فأمروها كما هي والصنف الأخير من الأطباء مرتادي المعاطف هو الاستشاري وهذا لا تراه لأنه نادر الوجود الا بعضا منهم وهي مرحلة يصل إليها الطبيب بعد أشواط رئيسية وإضافية وبعد أن تصقله تجارب السنين فيكون علما ومرجعا في تخصصه وربما يكون لابس المعطف لا من هؤلاء ولا من هؤلاء فلا حرج إن قابلت صاحب معطف أن تسأل عن مهنته حتى لا يفتيك من لا يعلم فيما لا يعلم ففي الناس صنف يجتهد ويأتي بالعيد فكن على حذر فحياتك أغلى من أن يعبث بها جاهل
] أحب عالم الأطفال، أحب أن أدخله معهم فهو عالم مليء بالجمال والدهشة والبراءة، عالم يمكن أن يحقق فيه الإنسان إنسانيته و يُحلِّق في سمائه ويسير على أرضه [
عبدالوهاب المسيريرحلتي الفكرية
 
*
ربما مضت ليلة في المستشفى يمر بها طبيب الأطفال تكون من أعجب الليالي في حياته ولا ينساها أبدا ففي الصباح يحضر ولادة قيصرية فيرى معجزة الخلق في هذا المولود الذي عاش في رحم أمه 9 أشهر نفخ فيه الروح وبدأ ينمو وينمو حتى إذا أذن الله بخروجه إلى الدنيا من (سعة) الرحم إلى (ضيق) الدنيا نستقبله بالضرب حتى يبكي فإذا بكى المولود – أي مولود – فهي علامة قوة لا خوف ونقلبه يمينا وشمالا ونجس نبضه ونميز لونه وشكل بكائه وطريقة جلوسه  حتى نشهد له – بالأرقام من 0 الى 10 –بعد قدرة الخالق أنه مستعد لمعركة الحياة
 
وفي وسط النهار في عيادة الأطفال يستعد لرؤية هذا المولود في مختلف مراحل حياته ويراقب نموه الجسدي والعقلي و يتعجب من هذا التدبير الإلهي كيف لذلك الجسم الصغير أن يكبر ويتشكل في كل ثانية ودقيقة وساعة و ليلة وأسبوع وشهر وعام حتى يصير (في أحسن تقويم) فــ(تبارك الله أحسن الخالقين)..
 
وفي المساء تحديدا آخر الليل معجزة أخرى من معجزات البارئ حين – يقدر الله- أن يحضر الطبيب حالة وفاة لطفل فيسبق ملك الموت روح الطفل فيقبضها قبل أن تمسكها  أجهزة الإنعاش .. المشهد أعظم من أن يوصف فشهادتك  لجسد (يموت) أمامك ليس كرؤية جسد(مات) ..
في حالات معينة أجهزة الطبيب تقول أن الطفل مات لكنها لا تقول لماذا مات .. وإذا قالت لماذا مات فيستحيل أن تقول لماذا مات الآن وليس غدا .. ؟
 هذا الإنسان مذهل في خلقه حين يولد وحين يمرض وحين يموت .. فمن هو خالقه !؟
و أصعب من شهادة لحظة الموت هي لحظة إعلانها ..
.. فمشاعر الطبيب ليست ملكه فهو يبشر بمقدم المولود  بابتسامة فرح و يطمن على صحة المريض بقلب راض ويواسي أهل الميت بعين تبكي بلا دموع فهو يخفيها ما استطاع وقد يكون هذا في يوم واحد .. فما أعظم تلك الروح التي تتحكم في أحاسيسها للآخرين فتعيش معهم في أفراحهم وأتراحهم ..
 وهذه هي الإنسانية كما أفهم – حين قالو إن الطب مهنة إنسانية - ...
 
تمت
 
نهاية الجزء الأول ولا أدري متى تنتهي سلسلة هذه الذكريات ففي كل يوم قصة وعبرة وفي أكتوبر القادم 2016 يبدأ عام جديد في رحلة التدريب وكأنها البارحة حين كتبت الحروف الأولى لمذكرات طالب طب سنة أولى في عام 2009 وكما قيل ( نحن حين نتذكر لا نستعيد الحياة على ما كانت عليه ، بل نحن ننشئ واقعا آخر من خلال هذه الذكريات )
 
صالح السعيد @sale7_alsaeed
#مذكرات_طبيب_أطفال #فضفضة_طبيب
السبت 1 أكتوبر 2016 الساعة 00:00

التسميات: